الأميرتشاني | قصّة

دوّار المنارة، رام الله.

 

(1)

كتبت في مذكّراتي المؤرّخة في الثامن من أيّار عام 2021، أنّني أدركت وأنا أفتح علبة حديديّة من مخلّل الشمندر الزهريّ، ورفاقي يفتحون علب الحمّص والتونة، ونحن على بساط في بستان في قرية بيتين، أدركت أنّ الوقت المفضّل إليّ من اليوم يقع بين ما قبل أذان المغرب ونهاية الإفطار، حين يصمت الجميع ويتوقّفون عن ترديد أغنية "أوه ماي الله! أوه ماي بالسطاين!"، وتشغيلها على هواتفهم، وذلك احترامًا للذِّكْر الحكيم الخارج من مآذن القرية، واحترامًا لقاعدة "لا كلام على طعام".

لم أَدْرِ لماذا يحتاج الناس إلى أغنية تحمّسهم في هبّة القدس، أليست الهبّة في حدّ ذاتها أجمل موسيقى؟

منذ بداية الأحداث قبل بضعة أيّام، تكتسح هذه الأغنية اللعينة كلّ الأجواء الثوريّة، بل بات بالإمكان رؤية وجه منشدها في كلّ مكان؛ اليوتيوبر والمؤثّر ومغنّي الراب ’الأميرتشاني‘؛ أي الأمريكيّ باللهجة الفلسطينيّة الفلّاحيّة، الّذي اتّخذ هذا اللقب افتخارًا لكونه من أب بيراويّ وأمّ صرداويّة.

صدحت الأغنية، مرّة أخرى، بعد الإفطار، وأنا ذاهبة مع مجموعة من أهل القرية والناشطين الأجانب إلى نقاط التماس والمواجهات، فأطلق الجنود الغاز المسيل للدموع قبل إطلاقهم المطّاط والعيارات الحيّة. أُصيب لقمان؛ أحد شباب القرية الّذين شاركونا مائدة الإفطار، برصاصة حيّة في كتفه، أمّا الناشط الألمانيّ كلاوس فقد رأينا، كما نرى عادةً في التلفاز والإنترنت، رأينا كيف سقط على الأرض بعد أن تصدّى درع ساطع من الضوء المطّاط والرصاص الموجّه نحوه.

 

(2)

في ذات الليلة، ترجّلتُ من سيّارة صديقتي هدى المتوجّهة إلى مدخل رام الله؛ من أجل المشاركة في المظاهرات والمواجهات الواقعة على ميدان «السيتي إن»، على الحدود بين المدينة ومستوطنة بيت إيل، والبقاء هناك حتّى وقت السحور. فجأة، صعد كلاوس معنا في المقعد الخلفيّ، وعلى وجهه ملامح رجل جاهز للكدّ والعمل طوال الليل. وكأنّ الأجنبيّ الأربعينيّ ذاك لم يُصَب ألبتّة برصاصة في قدمه قبل قليل.

لا أذكر المرّة الأخيرة الّتي سمعتُ فيها بإصابة خطيرة لأجنبيّ خلال المواجهات؛ فحتّى قبل اختراع حكوماتهم جوازات سفر خارقة، قادرة على تشكيل درع الجزيئيّات المتناهية الصغر حول أجسادهم، قادرة على صدّ الرصاص، وعلى تقديم خدمات عدّة وتقنيّات تساهم في حماية حاملها، كان الجنود الإسرائيليّون على حذر أصلًا من استخدام الرصاص الحيّ ضدّ الناشطين الأجانب؛ لأنّ موت أيّ أجنبيّ سيؤدّي إلى عواقب وخيمة في الواقع، بعكس موت الفلسطينيّ. ومع أنّ ثمّة العديد من الناشطين الأجانب الّذين رفضوا حمل جوازات سفرهم أثناء المواجهات؛ تضامنًا مع تضحية ماري كوري قبل عقدين، إلّا أنّ نسبة كبيرة منهم فضّلت حملها في حال ساءت الأمور.

لم تكن كلّ الدول قادرة على توفير مثل هذا الجواز لمواطنيها؛ لأنّ هذه التكنولوجيا الباهظة الثمن لا تزال محتكرة من قِبَل الدول الصناعيّة الغنيّة، بل كانت محتكرة بشكل تمييزيّ داخل الدولة الواحدة. أتذكّر جيّدًا عندما أخبرتني ضابطة التحقيق على المعبر أن أبتعد عن المشاكل؛ لأنّ وزارة الداخليّة قد قطعت هذه الخاصّيّة عن جواز سفري الإسرائيليّ، بعد أن قطنتُ في الضفّة الغربيّة لوقت طويل، ولم يَعُدْ لي مكان سكن قانونيّ في سخنين. أمّا الآخرون مثلي من فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948، فقد قطعتْ حكومة الاحتلال بكبسة زرّ هذه التكنولوجيا في جوازات سفرهم ووثائقهم الأخرى، وسيّاراتهم ذات النمرة الصفراء، منذ بداية الهبّة، وقد تعرّضوا لإطلاق النار، والضرب والسحل، وهجمات فرق الموت، واقتحامات البيوت؛ حتّى ظهرت تحقيقات صحافيّة عديدة أكّدت أنّ هذه التكنولوجيا لم تكن موجودة يومًا في حوزتنا.

 

(3)

عندما وصلنا إلى ميدان «السيتي إن» بعد أذان العشاء، خرج كلاوس من السيّارة، واختفى بين الجموع، فنسيته هو وإصابته الوهميّة، وعادت لي حماستي، فقد كان هناك مئات المتظاهرين والمتظاهرات الشباب والشابّات، بل آلاف، يقتربون من بوّابة المستوطنة، ويدفعون إلى الداخل. وأمّا الجنود الإسرائيليّون، وبالرغم من رشّاشاتهم والسيّارات المدرّعة ذات قاذفات الغاز المسيل للدموع، وبالرغم من درع الجزيئات الدقيقة حول أجسادهم، فكانوا جزعين مدركين أنّ كلّ ذلك لن يحميهم من حجارة المتظاهرين المقتربين من البوّابة، وعصيّهم وأجسادهم.

بعد بضع ساعات على مشاركتنا في المواجهات، حملت أنا وهدى وعدد من المعارف أقداحًا من القهوة والشطائر لوقت السحور، وصعدنا مع صديقنا المحامي جمعة إلى مكتبه المظلم الهادئ، في الطابق السابع من مبنى «السيتي إن» المطلّ على الميدان. في البداية كان هنالك الآلاف في الميدان، ثمّ المئات ثمّ العشرات، وعند حلول الفجر لم يتبقّ إلّا شخص واحد. بمحاذاة محطّة البنزين، كان هذا الرجل الوحيد يخطّ مشية غريبة، يقذف بساعده الأيمن إلى السماء، ويهبط بها إلى الأرض، من دون توقّف. ذلك كان حسني البندول، المسكين الّذي جنّ جنونه، بعدما غدره أقاربه ووضعوا له حبّة دواء أعصاب في كأس من الشاي.

"شوفي شوفي يا فاطمة"، قالت لي هدى وهي تشير عليه، "درويش وما إله حامي غير الله".

 

(4)

كنت قد رأيت حسني البندول مرّة أخرى بعد شهر من نهاية الهبّة، وأنا متوجّهة إلى حفل في «مؤسّسة عبد المحسن قطّان». كان يقذف بساعده الأيمن إلى السماء ويهبط بها إلى الأرض، وهو يطوف حول تمثال نيلسون مانديلا؛ طقسًا من طقوس سعيه اليوميّ المستمرّ بين دوّار المنارة ونهاية حيّ الطيرة كلّ يوم. في أيّام الجمعة كان يمشي مسافة طويلة بين رام الله وبير زيت.

عندما وصلت إلى الحفل، شعرنا أنا وهدى بأنّنا عجوزان لأنّنا الوحيدتان من مواليد نهاية الثمانينات في بحر من أطفال نهاية التسعينات والألفيّة وما بعدها، بل شعرت كأنّ هؤلاء دخلوا حجر «الكورونا» رُضَّعًا خداجًا أبرياء، وخرجوا منه مراهقين مشاكسين متحمّسين لأعظم مغامرات الصيف. هذا الجوّ زاد من شعورنا بالكبر، خاصّة أنّنا كنّا تعبات، خاليات من الحياة، لا طاقة لنا على الكلام أو الفعل، ولا سيّما بعد أن توقّفت هبّتنا.

بعد بضع فقرات على المسرح من الشعراء والمغنّين والموسيقيّين والكوميديّين، فجأة، صرخ هؤلاء المراهقون الحاضرون حولنا جميعًا، عندما صعد على خشبة المسرح أحد أهمّ وجوه هبّة أيّار وأعلامها:  ’الأميرتشاني‘.

"يو يو يو! أوه ماي الله! أوه ماي بالاسطاين!" 

بدأ ’الأميرتشاني‘ ينشد أغنيته الّتي باتت أيقونة الهبّة.

"يو يو يو! أوه ماي الله! أوه ماي بالاسطاين!".

وكان قد ظهر على عدد من قنوات الأخبار الأمريكيّة ليشرح القضيّة الفلسطينيّة.

"يو يو يو! أوه ماي الله! أوه ماي بالاسطاين!".

والأهمّ من ذلك كلّه أنّه قضى تمامًا على اليوتيوبر الأمريكيّة الصهيونيّة أنيتا، في مناظرة بُثَّت مباشرة لمدّة دامت ثلاث ساعات.

"يو يو يو! أوه ماي الله! أوه ماي بالاسطاين!". 

 

(5)

بعد الحفل جلست أنا وهدى في مقهى «المطلّ» بجانب مقرّ المؤسّسة؛ لنطلب كوب القهوة الرابع هذا اليوم؛ أملًا في إخراجنا من خمولنا الكئيب. كان النُّدُل يرتّبون طاولة كبيرة، اكتشفنا لاحقًا أنّها من أجل ’الأميرتشاني‘ وحاشيته. جلس هذا ’الأميرتشاني‘ على رأس الطاولة، وبدأ يثرثر بصوت عالٍ بالإنجليزيّة باللهجة الأمريكيّة، وكأنّه في وسط حفل في لوس أنجلوس لتوزيع الجوائز الموسيقيّة، قبل طلبه كوبًا من الشاي لاتيه.

عندما أحضر النادل الكوب، أخرج ’الأميرتشاني‘ جواز سفره الأمريكيّ المتطوّر، ووضعه على الطاولة، فخرج من هذا الجواز ستّ أقدام، فبات كأنّه عنكبوت آليّ. زحف هذا الآليّ الصغير نحو الكوب، وأجرى مسحًا عليه تحسّبًا لأيّ محاولة غدر بعد تهديدات بالقتل من قِبَل كارهي ’الأميرتشاني‘ ومحبّي اليوتيوبر الأمريكيّة الصهيونيّة أنيتا.

عندما خرجنا من مقرّ المؤسّسة، وركبنا في سيّارة هدى، دبّ فينا شيء آخر غير الحياة، ربّما رغبة عارمة في الغيبة والنميمة، في الكلام، في الشكوى، في النقد البنّاء وغير البنّاء ضدّ الجيل الّذي سبقنا والجيل الّذي أتى بعدنا. استمرّ حديثنا حتّى وصلنا إلى دوّار المنارة، حيث وجدنا عددًا كبيرًا من الناس متجمّعين في دائرة كبيرة حول جثّة مرتمية على الأرض.

فجأة، صرخ أحدهم:

"يا جماعة، حسني البندول مات! حسني البندول مات!".

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.